فصل: سئل:عن ‏(‏الدرزية‏)‏ و ‏(‏النصيرية‏)‏‏:‏ ما حكمهم‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَسئل ـ رحمه الله تعالي ـ عن ‏[‏الدرزية‏]‏ و ‏[‏النصيرية‏]‏‏:‏ ما حكمهم‏؟‏

فأجاب‏:‏

هؤلاء ‏[‏الدرزية‏]‏ و ‏[‏النصيرية‏]‏ كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين؛ ولا يهود، ولا نصاري، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما‏.‏ وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين‏.‏

فأما ‏[‏النصيرية‏]‏ فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون‏:‏ إن عليا إله، وهم ينشدون‏:‏

أشهــــــد ألا إلـــــه إلا ** حيـــدرة الأنــــزع البـطين

ولا حجــــاب عليـه إلا ** محـمـــد الصــادق الأمين

ولا طــــريق إليــــــــــه إلا ** سلمـــان ذو القـــوة المتيـــن

وأما ‏[‏الدرزية‏]‏ فأتباع هشتكين الدرزي، وكان من موالي الحاكم، أرسله إلي أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلي إلهية الحاكم، ويسمونه / ‏[‏الباري،العلام‏]‏ ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصاري ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا ‏[‏فلاسفة‏]‏ علي مذهب أرسطو وأمثاله، أو ‏[‏مجوسا‏]‏‏.‏ وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهرون التشيع نفاقا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وقال شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه ـ ردًا علي نبذ لطوائف من ‏[‏الدروز‏]‏

كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم، وتسبي نساؤهم، وتؤخذ أموالهم‏.‏ فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا، ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم، وتشييع جنائزهم إذا علم موتها‏.‏ ويحرم علي ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه‏.‏ والله المستعان وعليه التكلان‏.‏

/ وَسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن هؤلاء ‏[‏القلندرية‏]‏ الذين يحلقون ذقونهم‏:‏ ماهم‏؟‏ ومن أي الطوائف يحسبون‏؟‏ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنباً، وكلمه بلسان العجم‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما هؤلاء ‏[‏القلندرية‏]‏ المحلقي اللحى، فمن أهل الضلالة والجهالة، وأكثرهم كافرون باللّه ورسوله، لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وهم ليسوا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة وقد يكون فيهم من هو مسلم، لكن مبتدع ضال، أو فاسق فاجر‏.‏

ومن قال‏:‏ إن ‏[‏قلندر‏]‏ موجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب وافترى، بل قد قيل‏:‏ أصل هذا الصنف أنهم كانوا قوما من نساك الفرس، يدورون على مافيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات‏.‏ هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه، ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات، وفعلوا المحرمات،/ بمنزلة ‏[‏الملامية‏]‏ الذين كانوا يخفون حسناتهم، ويظهرون مالا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء، ولبس العمامة، فهذا قريب‏.‏ وصاحبه مأجور على نيته، ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة، ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في ‏[‏الملاميات‏]‏ ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والذم والعقاب من اللّه في الدنيا والآخرة؛ وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة أو فجور‏.‏

وليس ذلك مختصاً بهم، بل كل من كان من المتنسكة، والمتفقهة، والمتعبدة، والمتفقرة، والمتزهدة، والمتكلمة، والمتفلسفة، ومن وافقهم من الملوك، والأغنياء، والكتاب ، والحساب، والأطباء، وأهل الديوان والعامة ـ خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث اللّه به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر اللّه به على لسان رسوله، ولا يحرم ما حرمه اللّه ورسوله؛ أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث اللّه به رسوله باطنًا وظاهراً؛ مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره أو يهديه، أو يغيثه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا مطلقا، أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى اللّه تعالى، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه‏.‏

/وهؤلاء الأجناس، وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك‏.‏ وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات‏:‏ يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر اللّه فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف‏:‏ ‏(‏ يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صيامًا، ولا حجًا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة‏.‏ ويقولون‏:‏ أدركنا آباءنا وهم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان‏:‏ ما تغني عنهم لا إله إلا اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ تنجيهم من النار‏)‏ ‏.‏

وأصل ذلك‏:‏ أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن ‏[‏الإيمان‏]‏ من الأحكام المتلقاة عن اللّه ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم‏.‏ ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه، مثل من قال‏:‏ إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك / حتى يسألوا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال‏:‏‏(‏ إذا أنا مِتُّ فاسحقوني، وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله، ونحو ذلك‏)‏؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان‏.‏ وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثير في الوجود، أو يقول‏:‏ إن له نجما في السماء يسعد بسعادته ويشقى بعكسه، ويحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏5 ‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏، ويقول‏:‏ إنها صنعة إدريس ـ عليه السلام ـ ويقول عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن نجمه كان بالعقرب والمريخ‏.‏ فهل هذا من دين الإسلام، أم لا ‏؟‏ وحتى لو لم يكن من الدين‏:‏ فماذا يجب على قائله‏؟‏ والمنكرون على هؤلاء يكونون من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، النجوم من آيات اللّه الدالة عليه، المسبحة له، الساجدة له؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ وهذا التفريق يبين أنه لم يرد السجود لمجرد ما فيها من الدلالة على ربوبيته، كما يقول ذلك طوائف من الناس؛ إذ هذه الدلالة، يشترك فيها جميع المخلوقات، فجميع الناس فيهم هذه الدلالة، وهو قد فرق، فعلم أن ذلك قول زائد من جنس ما يختص به المؤمن، ويتميز به عن الكافر الذي حق عليه العذاب‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ مع ذلك قد جعل فيها منافع لعباده، وسخرها لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏ ومن منافعها الظاهرة ما يجعله ـ سبحانه ـ بالشمس من الحر والبرد، والليل والنهار ونضاج الثمار وخلق الحيوان والنبات والمعادن، وكذلك ما يجعله بها لهم من الترطيب والتيبيس ، وغير ذلك من الأمور المشهودة، كما جعل في النار الإشراق والإحراق، وفي الماء التطهير والسقى، وأمثال ذلك من نعمه التي يذكرها في كتابه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏48، 49‏]‏ وقد أخبر اللّه في غير موضع أنه يجعل حياة بعض مخلوقاته ببعض‏:‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 49‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ ‏.‏

فمن قال من أهل الكلام‏:‏ إن اللّه يفعل هذه الأمور عندها لا بها ، فعبارته مخالفة لكتاب اللّه والأمور المشهودة، كمن زعم أنها مستقلة بالفعل، هو مشرك مخالف العقل والدين‏.‏

وقد أخبر ـ سبحانه ـ في كتابه من منافع النجوم، فإنه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وأخبر أنها زينة للسماء الدنيا، وأخبر أن الشياطين ترجم بالنجوم، وإن كانت النجوم التي ترجم بها الشياطين من نوع آخر غير النجوم الثابتة في السماء التي يهتدي بها؛ فإن هذه لا تزول عن مكانها، بخلاف تلك؛ ولهذه حقيقة مخالفة لتلك، وإن كان اسم النجوم يجمعها، كما يجمع اسم الدابة والحيوان للملك، والآدمي، والبهائم، والذباب، والبعوض‏.‏

وقد ثبت بالأخبار الصحيحة التي اتفق عليها العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر، وأمر بالدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، وقال‏:‏ ‏(‏ إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏ آيتان من آيات اللّه يخوف بهما عباده ‏)‏، هذا قاله ردَّا لما قاله بعض جهال الناس‏:‏ إن الشمس كسفت لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها كسفت يوم موته وظن بعض الناس لما كسفت أن كسوفها كان لأجل موته، وأن موته هو / السبب لكسوفها، كا يحدث عن موت بعض الأكابر مصائب في الناس، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر لا يكون كسوفهما عن موت أحد من أهل الأرض، ولا عن حياته، ونفى أن يكون للموت والحياة أثر في كسوف الشمس والقمر، وأخبر أنهما من آيات اللّه، وأنه يخوف عباده‏.‏

فذكر أن من حكمة ذلك تخويف العباد؛ كما يكون تخويفهم في سائر الآيات؛ كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابا؛ كما عذب اللّه أمما بالريح والصيحة، والطوفان، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 40‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏، وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببا لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان اللّه قد جعل ذلك سببا لما ينزل في الأرض‏.‏

فمن أراد بقوله‏:‏ إن لها تأثيرًا، ما قد علم بالحس وغيره من هذه الأمور، فهذا حق، ولكن الله قد أمر بالعبادات التي تدفع عنا ما ترسل به من الشر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق، وكما كان صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح أقبل وأدبر وتغير،وأمر أن يقال عند هبوبها‏:‏ ‏(‏ اللهم إنا نسألك خير هذه الريح،وخير ما / أرسلت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما أرسلت به‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ إن الريح من روح اللّه، وإنها تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا اللّه من خيرها، وتعوذوا باللّه من شرها ‏)‏‏.‏ فأخبر أنها تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، وأمر أن نسأل اللّه من خيرها، ونعوذ باللّه من شرها‏.‏

فهذه السنة في أسباب الخير والشر‏:‏ أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب اللّه به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع اللّه به عنه الشر، فأما ما يخفى من الأسباب فليس العبد مأمورا بأن يتكلف معرفته، بل إذا فعل ما أمر به وترك ما حظر، كفاه اللّه مؤنة الشر، ويسر له أسباب الخير ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏

وقد قال تعالى فيمن يتعاطى السحر لجلب منافع الدنيا‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102، 103‏]‏ فأخبر ـ سبحانه ـ أن من اعتاض بذلك يعلم أنه لا نصيب له في الآخرة؛ وإنما يرجو بزعمه نفعه في الدنيا‏.‏ كما يرجون بما يفعلونه من السحر المتعلق بالكواكب وغيرها مثل الرياسة والمال‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏301‏]‏ فبين أن الإيمان والتقوى هو خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏، وقال في قصة يوسف‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏56، 57‏]‏ فأخبر أن أجر الآخرة خير للمؤمنين المتقين مما يعطون في الدنيا من الملك والمال كما أعطى يوسف‏.‏

وقد أخبر ـ سبحانه ـ بسوء عاقبة من ترك الإيمان والتقوى في غير آية في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏ والمفلح الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب‏.‏ فالساحر لا يحصل له ذلك، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر ‏)‏‏.‏

و ‏[‏السحر‏]‏ محرم بالكتاب والسنة والإجماع‏:‏ وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ علمي، وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث، من جنس الاستقسام بالأزلام‏.‏ الثاني‏:‏ عملي، وهو الذي يقولون‏:‏ إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، كطلاسم ونحوها، وهذا من أرفع أنواع السحر، وكل ما حرمه اللّه ورسوله فضرره أعظم من نفعه‏.‏

/فالثاني وإن توهم المتوهم أن فيه تقدمة للمعرفة بالحوادث، وأن ذلك ينفع، فالجهل في ذلك أضعف، ومضرة ذلك أعظم من منفعته؛ ولهذا قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق، وهم في ذلك من أنواع الكهان، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له‏:‏ إن منا قومًا يأتون الكهان، فقال‏:‏ ‏(‏ إنهم ليسوا بشيء‏)‏، فقالوا‏:‏ يارسول اللّه، إنهم يحدثونا أحيانا بالشيء فيكون حقا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ تلك الكلمة من الحق يسمعها الجني يقرها في أذن وليه ‏)‏، وأخبر ‏(‏ أن اللّه إذا قضي بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق‏.‏ وأن كل أهل السماء يخبرون أهل السماء التي تليهم، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض، فربما سمع الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، وربما أدركه الشهاب بعد أن يلقيها‏)‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ فلو أتوا بالأمر على وجهه، ولكن يزيدون في الكلمة مائة كذبة‏)‏ ‏.‏

وهكذا ‏[‏المنجمون‏]‏، حتى إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها‏.‏ قال رئيس منهم‏:‏ والله إنا نكذب مائة كذبة، حتى نصدق في كلمة،/ وذلك أن مبني علمهم على أن الحركات العلوية هي السبب في الحوادث، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، وهذا إنما يكون إذا علم السبب التام الذي لا يتخلف عنه حكمه، وهؤلاء أكثر ما يعلمون ـ إن علموا ـ جزءًا يسيرا من جملة الأسباب الكثيرة، ولا يعلمون بقية الأسباب، ولا الشروط، ولا الموانع مثل من يعلم أن الشمس في الصيف تعلو الرأس حتى يشتد الحر، فيريد أن يعلم من هذا ـ مثلا ـ أنه حينئذ أن العنب الذي في الأرض الفلانية يصير زبيبا، على أن هناك عنبًا، وأنه ينضج، وينشره صاحبه في الشمس وقت الحر فيتزبب‏.‏ فهذا وإن كان يقع كثيرا، لكن أخذ هذا من مجرد حرارة الشمس جهل عظيم؛ إذ قد يكون هناك عنب وقد لا يكون‏.‏ وقد يثمر ذلك الشجر إن خدم وقد لا يثمر، وقد يؤكل عنبا وقد يعصر، وقد يسرق، وقد يزبب، وأمثال ذلك‏.‏

والدلالة الدالة على فساد هذه الصناعة وتحريمها كثيرة، وليس هذا موضعها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما‏)‏ ‏.‏ و ‏[‏العراف‏]‏ قد قيل‏:‏ إنه اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق، ولو قيل‏:‏ إنه في اللغة اسم لبعض هذه الأنواع فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي، كما قيل في اسم الخمر والميسر ونحوهما‏.‏

/وأما إنكار بعض الناس أن يكون شيء من حركات الكواكب وغيرها من الأسباب، فهو? ـ أيضا ـ قول بلا علم، وليس له في ذلك دليل من الأدلة الشرعية ولا غيرها، فإن النصوص تدل على خلاف ذلك، كما في الحديث الذي في السنن عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال‏:‏ ‏(‏ يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا، فهذا الغاسق إذا وقب ‏)‏، وكما تقدم في حديث الكسوف حيث أخبر ‏(‏ أن الله يخوف بهما عباده‏)‏‏.‏

وقد تبين أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته‏)‏ أي‏:‏ لا يكون الكسوف معللا بالموت، فهو نفي العلة الفاعلة، كما في الحديث الآخر الذي فى صحيح مسلم عن ابن عباس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رمى بنجم فاستنار، فقال‏:‏ ‏(‏ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ كنا نقول‏:‏ ولد الليلة عظيم، أو مات عظيم،فقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته،ولكن اللّه إذا قضى بالأمر سبح حملة العرش‏)‏ وذكر الحديث في مسترق السمع‏.‏فنفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمي بها لأجل أنه قد ولد عظيم أو مات عظيم ، بل لأجل الشياطين المسترقين السمع‏.‏ ففي كلا الحديثين من أن موت الناس وحياتهم لا يكون سبب الكسوف الشمس والقمر ولا الرمي بالنجم، وإن كان موت بعض الناس قد يقتضي حدوث أمر في السموات؛ كما ثبت في الصحاح‏:‏ ‏(‏أن العرش عرش الرحمن اهتز لموت سعد / بن معاذ‏)‏، وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سببا لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتا أو غيره، فهذا قد أثبته الحديث نفسه‏.‏

وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافي لكون الكسوف له وقت محدود يكون فيه، حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار، ولا يكون خسوف القمر إلا في وسط الشهر وليالي الإبدار‏.‏ ومن ادعى خلاف ذلك من المتفقهة أو العامة فلعدم علمه بالحساب؛ ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل، كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل؛ إذ كل ذلك بحساب، كما قال تعالى‏:‏‏{‏ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

ومن هنا صار بعض العامة إذا رأى المنجم قد أصاب في خبره عن الكسوف المستقبل يظن أن خبره عن الحوادث من هذا النوع؛ فإن هذا جهل؛ إذ الخبر الأول بمنزلة إخباره بأن الهلال يطلع‏:‏ إما ليلة الثلاثين، وإما ليلة إحدى وثلاثين فإن هذا أمر أجرى اللّه به العادة لا يخرم أبدا، وبمنزلة خبره أن الشمس تغرب آخر النهار وأمثال ذلك‏.‏ فمن عرف منزلة الشمس والقمر، ومجاريهما علم ذلك، وإن كان ذلك علما قليل المنفعة‏.‏

/فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله اللّه سببا لما يقضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن ينزل اللّه به ذلك، كما أن تعذيب اللّه لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة ـ وهو السحاب الذي يخال فيه المطر ـ أقبل وأدبر، وتغير وجهه، فقالت له عائشة‏:‏ إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا، فقال‏:‏ ‏(‏ ياعائشة، وما يؤمنني‏؟‏ قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا‏:‏‏{‏ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ‏}‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏)‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏، وكذلك الأوقات الذي ينزل اللّه فيها الرحمة، كالعشر الآخرة من رمضان، والأول من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك هي أوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها‏.‏

وقد جاء في بعض طرق أحاديث الكسوف ما رواه ابن ماجه وغيره في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له‏)‏ وقد طعن في هذا الحديث أبو حامد ونحوه، وردوا ذلك، لا من جهة علم الحديث، فإنهم قليلوا المعرفة به كما كان أبو حامد يقول عن نفسه‏:‏ أنا مزجى البضاعة في علم الحديث، /ولكن من جهة كونهم اعتقدوا أن سبب الكسوف إذا كان ـ مثلاـ كون القمر إذا حاذاها منع نورها أن يصل إلى الأرض لم يجز أن يعلل ذلك بالتجلي‏.‏ والتجلي المذكور لا ينافي السبب المذكور، فإن خشوع الشمس والقمر للّه في هذا الوقت إذا حصل لنوره ما يحصل من انقطاع يرفع تأثيره عن الأرض، وحيل بينه وبين محل سلطانه وموضع انتشاره وتأثيره، فإن الملك المتصرف في مكان بعيد لو منع ذلك لذل لذلك‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 5‏]‏ فالمدبرات هي الملائكة‏.‏ وأما إقسام اللّه بالنجوم، كما أقسم بها في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏، فهو كإقسامه بغير ذلك من مخلوقاته، كما أقسم بالليل والنهار، والشمس والقمر، وغير ذلك، يقتضي تعظيم قدر المقسم به، والتنبيه على ما فيه من الآيات والعبرة، والمنفعة للناس، والإنعام عليهم، وغير ذلك، ولا يوجب ذلك أن تتعلق القلوب به، أو يظن أنه هو المسعد المنحس، كما لا يظن ذلك في ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏1، 2‏]‏ وفي ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1، 2‏]‏ وفي ‏{‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏1، 2‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏

واعتقاد المعتقد أن نجما من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاده فاسد، وأن المعتقد أنه هو المدبر له، فهو كافر‏.‏ وكذلك إن انضم إلى ذلك دعاؤه والاستعانة به كان كفرا، وشركا محضا، وغاية / من يقول ذلك أن يبني ذلك على أن هنا الولد حين ولد بهذا الطالع‏.‏ وهذا القدير يمتنع أن يكون وحده هو المؤثر في أحوال هذا المولود، بل غايته أن يكون جزءا يسيرا من جملة الأسباب‏.‏ وهذا القدر لا يوجب ما ذكر، بل ما علم حقيقة تأثيره فيه مثـل حال الوالدين، وحال البلد الذي هـو فيـه، فـإن ذلك سبب محسوس في أحوال المولود، ومع هذا فليس هذا مستقلا‏.‏

ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين وأتباعهم قد قيل إنهم كانوا إذا ولد لهم المولود أخذوا طالع المولود، وسموا المولود باسم يدل على ذلك، فإذا كبر سئل عن اسمه، أخذ السائل حال الطالع‏.‏ فجاء هؤلاء الطرقية يسألون الرجل عن اسمه واسم أمه، ويزعمون أنهم يأخذون من ذلك الدلالة على أحواله، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض منافية للعقل والدين‏.‏ وأما اختياراتهم، وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال‏:‏ مثل اختياراتهم للسفر أن يكون القمر في شرفه وهو السرطان وألا يكون في هبوطه وهو العقرب فهو من هذا الباب المذموم‏.‏

ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت / والقمر في العقرب هزم أصحابك ـ أو كما قال ـ فقال على‏:‏ بل أسافر ثقة باللّه، وتوكلا على اللّه، وتكذيبا لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سر به، حيث كان قتاله لهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏وأما ما يذكره بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تسافر والقمر في العقرب، فكذب مختلق باتفاق أهل الحديث‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إنها صنعة إدريس‏:‏

فيقال أولاً‏:‏ هذا قول بلا علم؛ فإن مثل هذا لا يعلم إلا بالنقل الصحيح، ولا سبيل لهذا القائل إلى ذلك، ولكن في كتب هؤلاء هرمس الهرامسة ويزعمون أنه هو إدريس‏.‏ والهرمس عندهم اسم جنس؛ ولهذا يقولون‏:‏ هرمس الهرامسة، وهذا القدر الذي يذكرونه عن هرمسهم يعلم المؤمن قطعًا أنه ليس هو مأخوذاً عن نبي من الأنبياء على وجهه؛ لما فيه من الكذب والباطل‏.‏

ويقال ثانيًا‏:‏ هذا إن كان أصله مأخوذا عن إدريس فإنه كان معجزة له، وعلمًا أعطاه اللّه إياه، فيكون من العلوم النبوية‏.‏ وهؤلاء إنما يحتجون بالتجربة والقياس، لا بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

/ويقال ثالثا‏:‏ إن كان بعض هذا مأخوذا عن نبي فمن المعلوم قطعا أن فيه من الكذب والباطل أضعاف ماهو مأخوذ من ذلك النبي‏.‏ ومعلوم قطعا أن الكذب والباطل الذي في ذلك أضعاف الكذب والباطل الذي عند اليهود والنصارى فيما يأثرونه على الأنبياء، وإذا كان اليهود والنصارى قد تيقنا قطعا أن أصل دينهم مأخوذ عن المرسلين، وأن اللّه أنزل التوراة والإنجيل والزبور كما أنزل القرآن، وقد أوجب اللّه علينا أن نؤمن بما أنزل علينا وما أنزل على من قبلنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ ثم مع ذلك قد أخبرنا اللّه أن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا، وكذبوا وكتموا، فإذا كانت هذه حال الوحى المحقق، والكتب المنزلة يقينا، مع أنها إلينا أقرب عهدا من إدريس، ومع أن نقلتها أعظم من نقلة النجوم، وأبعد عن تعمد الكذب والباطل، وأبعد عن الكفر باللّه ورسوله واليوم الآخر، فما لظن بهذا القدر إن كان فيه ما هو منقول عن إدريس‏؟‏‏!‏ فإنا نعلم أن فيه من الكذب والباطل والتحريف أعظم مما في علوم أهل الكتاب‏.‏

وقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا‏:‏/ آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون‏)‏ فإذا كنا مأمورين فيما يحدثنا به أهل الكتاب ألا نصدق إلا بما نعلم أنه الحق، كما لا نكذب إلا بما نعلم أنه باطل، فكيف يجوز تصديق هؤلاء فيما يزعمون أنه منقول عن إدريس عليه السلام، وهم في ذلك أبعد عن علمهم المصدق من أهل الكتاب‏؟‏‏!‏

ويقال رابعا‏:‏ لا ريب أن النجوم نوعان ‏:‏ حساب، وأحكام‏.‏ فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب‏.‏ وصفاتها ومقادير حركاتها، وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه، كمعرفة الأرض وصفتها‏.‏ ونحو ذلك، لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب، قليل الفائدة، كالعالم مثلا بمقادير الدقائق، والثواني، والثوالث في حركات السبعة المتحيرة ‏{‏ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ فإن كان أصل هذا مأخوذا عن إدريس فهذا ممكن، واللّه أعلم بحقيقة ذلك، كما يقول ناس إن أصل الطب مأخوذ عن بعض الأنبياء‏.‏

وأما الأحكام التي هي من جنس السحر فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء كان ساحرًا، وهم يذكرون أنواعا من السحر، ويقولون‏:‏ هذا يصلح لعمل النواميس‏.‏ أي‏:‏ الشرائع، والسنن ومنها مـا هو دعايـة الكواكب، وعبادة لها، وأنواع مـن الشرك الذي يعلم كل مـن آمن باللّه ورسـولـه بالاضطرار أن نبيًا مـن الأنبياء لا يأمر بذلك / ولا علمه، وإضافة ذلك إلى بعض الأنبياء كإضافة من أضاف ذلك إلى سليمان عليه السلام، لما سخر اللّه له الجـن والإنس والطـير، فزعم قـوم أن ذلك كـان بأنواع مـن السحر، حتى إن طوائف مـن اليهـود والنصارى لا يجعلونـه نبيا حكيما، فنزهـه اللّه عن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ وكذلك ـ أيضًا ـ الاستدال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، والاختيارات للأعمال، هذا كله يعلم قطعا أن نبيا من الأنبياء لم يؤمر قط بهذا؛ إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير، وما فيه من الحق فهو شبيه بما قال إمام هؤلاء ومعلمهم الثاني ـ أبو نصر الفارابي ـ قال ما مضمونه‏:‏ إنك لو قلبت أوضاع المنجمين، فجعلت مكان السعد نحسا، ومكان النحس سعدا، أو مكان الحار باردا، أو مكان البارد حارا، أو مكان المذكر مؤنثا، أو مكان المؤنث مذكرا، وحكمت، لكان حكمك من جنس أحكامهم، يصيب تارة، ويخطئ أخرى‏.‏ وما كان بهذه المثابة فهم ينزهون عنه بقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأصحابه الفلاسفة المشائين، الذين يوجد في كلامهم من الباطل والضلال نظير ما يوجد في كلام اليهود والنصارى، فإذا كانوا ينزهون عنه هؤلاء الصابئين، وأنبياءهم الذين أقل نسبة، وأبعد عن معرفة الحق من اليهود والنصارى‏:‏ فكيف يجوز نسبته إلى نبي كريم‏؟‏‏!‏

/ونحن نعلم من أحوال أئمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق ـ وليس هو بنبي من الأنبياء ـ من جنس هذه الأمور ما يعلم كل عالم بحال جعفر ـ رضي اللّه عنه ـ أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظـم الكذب، حتى نسب إليه أحكام الحركات السفلية كاختلاج الأعضاء وحوادث الجو من الرعد، والبرق، والهالة، وقوس اللّه، الذي يقال له‏:‏ قوس قزح وأمثال ذلك، والعلماء يعلمون أنه بريء من ذلك كله‏.‏

وكذلك نسب إليه الجدول الذي بني عليه الضلال طائفة من الرافضة، وهو كذب مفتعل عليه، افتعله عليه عبد اللّه بن معاوية أحد المشهورين بالكذب، مع رياسته، وعظمته عند أتباعه‏.‏

وكذلك أضيف إليه كتاب الجفر، والبطاقة، والهفت، وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم به، حتى أضيف إليه رسائل إخوان الصفا، وهذا في غاية الجهل؛ فإن هذه الرسائل إنما وضعت بعد موته بأكثر من مائتي سنة؛ فإنه توفى سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذه الرسائل وضعت في دولة بني بويه في أثناء المائة الرابعة في أوائل دولة بني عبيد الذين بنوا القاهرة، وضعها جماعة، وزعموا أنهم جمعوا بها بين الشريعة والفلسفة، فضلوا وأضلوا‏.‏

وأصحاب جعفر الصادق الذين أخذوا عنه العلم ـ كمالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وأمثالهما من الأئمة أئمة الإسلام براء من هذه الأكاذيب‏.‏

/وكذلك كثير ما يذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير عن جعفر من الكذب الذي لا يشك في كذبه أحد من أهل المعرفة بذلك‏.‏ وكذلك كثير من المذاهب الباطلة التي يحكيها عنه الرافضة وهي من أبين الكذب عليه‏.‏ وليس في فرق الأمة أكثر كذبا واختلافا من الرافضة من حين نبغوا‏.‏

فأول من ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا، يقال له‏:‏ عبد اللّه بن سبأ فأراد بذلك إفساد دين المسلمين، كما فعل ‏[‏بولص‏]‏ صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى، حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا، فأظهر النصرانية نفاقا فقصد إفسادها، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا فقصد ذلك، وسعى في الفتنة لقصد إفساد الملة، فلم يتمكن من ذلك، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة قتل فيها عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ وجرى ما جرى من الفتنة، ولم يجمع اللّه ـ وللّه الحمد ـ هذه الأمة على ضلالة، بل لا يزال فيها طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة ، كما شهدت بذلك النصوص المستفيضة في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ ردها، وكانت ثلاثة طوائف‏:‏ غالية، وسبابة، ومفضلة‏.‏

/فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام، فقال‏:‏ ماهذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنت هو اللّه، فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا، فأمر في الثالث بأخاديد فخدت، وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وقال‏:‏

لما رأيت الأمـر أمـرا منكـــرا ** أججت ناري ودعـوت قنبـرا

وفي صحيح البخاري أن عليا أتى بزنادقتهم فحرقهم، وبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏ أما أنا فلو كنت لم أحرقهم، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ‏.‏

وأما السبابة فإنه لما بلغه من سب أبا بكر وعمر طلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا، وكلمه فيه، وكان على يداري أمراءه؛ لأنه لم يكن متمكنا ولم يكونوا يطيعونه في كل ما يأمرهم ‏.‏

وأما المفضلة فقال‏:‏ لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترين، وروي عنه من أكثر من ثمانين وجها أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏.‏ وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية أنه قال لأبيه‏:‏ يا أبت، من خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ / فقال‏:‏ يابني، أو ما تعرف‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر، قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏ وفي الترمذي وغيره أن عليا روى هذا التفضيل عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب الذي لا يجوز نسبتها إلى أقل المؤمنين، حتى أضافت إليه القرامطة والباطنية والخرمية والمزدكية والإسماعيلية والنصيرية مذاهبها التي هي من أفسد مذاهب العالمين، وادعوا أن ذلك من العلوم الموروثة عنه‏.‏ وهذا كله إنما أحدثه المنافقون الزنادقة الذين قصدوا إظهار ما عليه المؤمنون وهم يبطنون خلاف ذلك واستتبعوا الطوائف الخارجة عن الشرائع، وكان لهم دول، وجرى على المؤمنين منهم فتن، حتى قال ابن سينا‏:‏ إنما اشتغلت في علوم الفلاسفة لأن أبي كان من أهل دعوة المصريين ـ يعني من بني عبيد الرافضة القرامطة ـ فإنهم كانوا ينتحلون هذه العلوم الفلسفية، ولهذا تجد بين هؤلاء وبين الرافضة ونحوهم من البعد عن معرفة النبوات اتصال وانضمامات يجمعهم فيه الجهل الصميم بالصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏

فإذا كان في الزمان الذي هو أقل من سبعمائة سنة قد كذب على أهل بيته وأصحابه وغيرهم وأضيف إليهم من مذاهب الفلاسفة والمنجمين ما يعلم/ كل عاقل براءتهم منه، ونفق ذلك على طوائف كثيرة منتسبة إلى هذه الملة مع وجود من يبين كذب هؤلاء وينهى عن ذلك، ويذب عن الملة بالقلب واليد واللسان، فكيف الظن بما يضاف إلى إدريس وغيره من الأنبياء من أمور النجوم والفلسفة، مع تطاول الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملك والملل والأديان، وعدم من يبين حقيقة ذلك من حجة وبرهان، واشتمال ذلك على مالا يحصى من الكذب والبهتان‏؟‏‏!‏

وكذلك دعوى المدعى أن نجم النبي صلى الله عليه وسلم كان بالعقرب والمريخ، وأمته بالزهرة، وأمثال ذلك هو من أوضح الهذيان، المباينة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم لما يدعونه من هذه الأحكام، فإن من أوضح الكذب قولهم إن نجم المسلمين بالزهرة، ونجم النصارى بالمشترى، مع قولهم إن المشترى يقتضى العلم والدين، والزهرة تقتضي اللهو واللعب‏.‏

وكل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلا وضلالة، وأبعدهم عن معرفة المعقول والمنقول، وأكثر اشتغالا بالملاهى وتعبدا بها‏.‏

والفلاسفة متفقون كلهم على أنه ما قرع العالم ناموس أعظم من الناموس الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته أكمل عقلا ودينا وعلما باتفاق الفلاسفة، حتى فلاسفة اليهود والنصارى، فإنهم لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلا ودنيا‏.‏

/وانما يمكث أحدهم على دينه‏.‏ إما اتباعا لهواه ورعاية لمصلحة دنياه في زعمه، وإما ظنا منه أنه يجوز التمسك بأي ملة كانت، وأن الملل شبيهة بالمذاهب الإسلامية؛ فإن جمهور الفلاسفة والمنجمين وأمثالهم يقولون بهذا، ويجعلون الملل بمنزلة الدول الصالحة، وإن كان بعضها أفضل من بعض‏.‏

وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،فناطقة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية ـ وهي الإسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بكتبه؛ ورسله، واليوم الآخر ـ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، قال نوح‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏، وقال في إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏130‏:‏ 132‏]‏ وقال موسى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏وقال في/ الحوارين‏:‏ ‏{‏أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏، وقد قال مطلقا‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18، 19‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏

فإذا كان المسلمون باتفاق كل ذي عقل أولى أهل الملل بالعلم والعقل والعدل وأمثال ذلك مما يناسب عندهم آثار المشتري، والنصارى أبعد عن ذلك، وأولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة، كان ما ذكروه ظاهر الفساد‏.‏

ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة، حتى أن كبير الفلاسفة الذي يسمونه فيلسوف الإسلام يعقوب بن إسحاق الكندي عمل تسييرا لهذا الملة، زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأخذ ذلك منه من أخرج مخرج الاستخراج من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده، ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل، الذي للحروف التي في / أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفا‏.‏ وحسابها في الجملة الكثير ستمائة وثلاثة وتسعون‏.‏ ومن هذا ـ أيضا ـ ما ذكر في التفسير أن اللّه لما أنزل ‏{‏حم‏}‏ قال بعض اليهود‏:‏ بقا هذه الملة إحدى وثلاثون، فلما أنزل بعد ذلك ‏{‏الـر‏}‏ و ‏{‏حم‏}‏ قالوا‏:‏ خلط علينا‏.‏

فهذه الأمور التي توجد في ضلال اليهود والنصارى، وضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين، مشتملة من هذا الباطل على مالا يعلمه إلا اللّه تعالى‏.‏

وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام محرمة فيه، فيجب إنكارها، والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان، واليد واللسان؛ فإن ذلك من أعظم ما أوجبه اللّه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسوس الملل‏.‏

ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بشوب من الحق، كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم، يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذي يجب الإيمان به، ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه‏.‏ وكثيرًا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة اللّه التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة‏.‏ وقد بسطنا القول في هذا الباطل ونحوه في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه أعلم‏.‏